الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قَدْ كَانَ وَقْتُ تَغْرِيرِ الشَّيْطَانِ بِالْمُشْرِكِينَ وَإِيهَامِهِمْ أَنَّهُ لَا غَالِبَ لَهُمْ مِنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، هُوَ بِعَيْنِهِ وَقْتُ تَعَجُّبِ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ فِي الدِّينِ مِنْ إِقْدَامِ هَذَا الْعَدَدِ الْقَلِيلِ الْفَاقِدِ لِكُلِّ اسْتِعْدَادٍ حِسِّيٍّ مِنْ أَسْبَابِ الْحَرْبِ، عَلَى قِتَالِ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَفُوقُهُ ثَلَاثَةَ أَضْعَافٍ فِي الْعَدَدِ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَنْقُصُهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَاحِدَةٌ، فَذَلِكَ قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} فَالظَّرْفُ هُنَا مُتَعَلِّقٌ بِـ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ والْمُنَافِقُونَ هُمُ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُسِرُّونَ الْكُفْرَ، ووَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمْ ضِعَافُ الْإِيمَانِ تَثُورُ بِهِمُ الشُّكُوكُ وَالشُّبُهَاتُ تَارَةً فَتُزَلْزِلُ اعْتِقَادَهُمْ، وَتَسْكُنُ تَارَةً فَيَكُونُونَ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَلْ يُمَيِّزُ أَهْلَ الْيَقِينِ مِنَ الضُّعَفَاءِ إِلَّا الِامْتِحَانُ بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّدَائِدِ؟ لَمْ يَرَ الْمُنَافِقُونَ وَمَنْ هُمْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُمْ مِنْ مَرْضَى الْقُلُوبِ عِلَّةً يُعَلِّلُونَ بِهَا هَذَا الْإِقْدَامَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ إِلَّا الْغُرُورَ بِالدِّينِ، وَلَعَمْرُ الْإِنْصَافِ إِنَّ هَذَا لَأَقْرَبُ تَعْلِيلٍ مَعْقُولٍ لِأَمْثَالِهِمُ الْمَحْرُومِينَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ بِاللهِ، وَالثِّقَةِ بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ.وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِمَّا وَرَدَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ مِنْ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ، وَلَا مِنَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَإِنَّ ضُعَفَاءَهُمْ قَدْ مَحَّصَهُمُ اللهُ بِمَا كَانَ مِنْ جِدَالِهِمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمُصَارَحَتِهِمْ لَهُ فِي كَرَاهَةِ الْقِتَالِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَبِاقْتِنَاعِهِمْ بِجَوَابِهِ لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ- ثُمَّ أَتَمَّ تَمْحِيصَهُمْ بِخَوْضِهِمُ الْمَعْرَكَةَ، فَهُمْ مِنَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ بِأَنَّهُ غَرَّهُمْ دِينُهُمْ، وَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي الْمُؤْمِنِينَ: غَرَّهُمْ دِينُهُمْ وَهُوَ تَبَرُّؤٌ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ؟ فَإِنْ صَحَّ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعْدُودِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ لَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْغُزَاةِ، وَإِلَّا كَانَ خَطَأً مَرْدُودًا، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ فِي سَنَةِ يَوْمِ بَدْرٍ يُمَيَّزُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ بِنَفْسِهِ، وَالرِّوَايَةُ عَنْهُ فِيهَا كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا.وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ إِسْحَاقَ وَمَعْمَرٍ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فِئَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ قَيْسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ، وَالْعَاصُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ خَرَجُوا مَعَ قُرَيْشٍ مِنْ مَكَّةَ وَهُمْ عَلَى الِارْتِيَابِ فَحَبَسَهُمُ ارْتِيَابُهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى مَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ نَقْلِهِ: وَهَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ سَيَّارٍ سَوَاءً.وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ أَيْ: يَكِلُ إِلَيْهِ أَمْرَهُ مُؤْمِنًا إِيمَانَ إِذْعَانٍ وَاطْمِئْنَانٍ بِأَنَّهُ هُوَ حَسْبُهُ وَكَافِيهِ وَنَاصِرُهُ وَمُعِينُهُ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، عَزِيزٌ لَا يَغْلِبُهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ: فَهُوَ تَعَالَى بِمُقْتَضَى عِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ عِنْدَ إِيمَانِهِمْ بِهِ، وَتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ: يَكْفِيهِمْ مَا أَهَمَّهُمْ، وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ، وَعَظُمَ اسْتِعْدَادُهُمْ؛ لِأَنَّهُ عَزِيزٌ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، حَكِيمٌ يَضَعُ كُلَّ أَمْرٍ فِي مَوْضِعِهِ عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ النِّظَامُ وَالتَّقْدِيرُ فِي سُنَنِهِ، وَمِنْهُ نَصْرُ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ، بَلْ كَثِيرًا مَا تَدْخُلُ عِنَايَتُهُ بِالْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْآيَاتِ، وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ (كَمَا حَصَلَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَآيَاتُ اللهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا) وَإِنْ أَجْمَعَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يَقْتَضِي تَرْكَ الْأَسْبَابِ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا الْخُرُوجَ عَنِ السُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي أَفْعَالِ الرَّبِّ، كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ مُفَصَّلًا مِنْ قَبْلُ.
وَقَدِ اشْتُهِرَ فِي عِبَادِ الْمِلَّةِ أَفْرَادٌ فِي تَرْكِ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا تَوَكُّلًا عَلَى اللهِ، وَثِقَةً بِهِ، وَاشْتُهِرَ مِنْ تَسْخِيرِهِ تَعَالَى الْأَسْبَابَ لَهُمْ، وَالْعِنَايَةَ بِهِمْ، مَا يَعْسُرُ عَلَى الذَّكِيِّ تَأْوِيلُهُ كُلُّهُ بِالتَّخْرِيجِ عَلَى الْمُصَادَفَاتِ الْمُعْتَادَةِ: كَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ الَّذِي كَانَ مَلِكًا فَخَرَجَ مِنْ مُلْكِهِ، وَانْقَطَعَ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ، وَفِي كُلِّ أُمُورِهِ. وَإِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ وَشَقِيقٍ الْبَلْخِيِّ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ أَدْرَكْنَا فِي عَصْرِنَا عَالِمًا أَفْغَانِيًّا مِنْهُمُ اسْمَهُ عَبْدُ الْبَاقِي خَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ بَعْدَ تَحْصِيلِ الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ إِلَى الْهِنْدِ لِلتَّوَسُّعِ فِي الْفَلْسَفَةِ وَسَائِرِ الْمَعْقُولَاتِ، وَجَدَّ وَاجْتَهَدَ فِيهَا حَتَّى رَأَى فِي مَنَامِهِ مَرَّةً رَجُلَا ذَا هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ مُؤْثِرَةٍ سَأَلَهُ: أَتَدْرِي مَاذَا تَعْمَلُ يَا عَبْدَ الْبَاقِي؟ إِنَّكَ كَمَنْ يَأْخُذُ خَشَبَةً يُحَرِّكُ بِهَا الْكَنِيفَ عَامَّةَ نَهَارِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ حَمَلَتْهُ هَذِهِ الرُّؤْيَا عَلَى التَّفَكُّرِ فِي هَذِهِ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ وَالْفَائِدَةِ مِنْهَا. وَمَا لَبِثَ أَنْ تَرَكَهَا، وَعَزَمَ عَلَى الِانْقِطَاعِ لِعِبَادَةِ اللهِ، وَتَرَكَ الْعَالَمَ كُلَّهُ لِذَلِكَ، فَخَرَجَ مِنَ الْهِنْدِ إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ فَكَانَ يَحُجُّ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَاشِيًا، وَيَعُودُ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ فِي الْغَالِبِ فَيُقِيمُ عِنْدَنَا فِي الْقَلَمُونِ أَيَّامًا، وَفِي طَرَابُلُسَ وَحِمْصَ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْحِجَازِ، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْمِلُ دَرَاهِمَ، وَلَا زَادًا، وَقَدْ يَحْمِلُ كِتَابًا بِيَدِهِ يقرأ هُ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ وَهَبَهُ، وَتَلَقَّى عَنْهُ بَعْضُ الْأَذْكِيَاءِ دُرُوسًا فِي التَّوْحِيدِ وَالْأُصُولِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُولَئِكَ الدَّرَاوِيشِ الْكُسَالَى وَالسَّيَّاحِينَ الدَّجَّالِينَ.قَالَ صَدِيقُنَا الْعَالِمُ الذَّكِيُّ النَّقَّادَةُ السَّيِّدُ عَبْدُ الْحَمِيدِ الزَّهْرَاوِيُّ: لَوْلَا أَنَّنَا رَأَيْنَا هَذَا الرَّجُلَ بِأَعْيُنِنَا وَاخْتَبَرْنَاهُ فِي هَذِهِ السِّنِينَ الطِّوَالِ بِأَنْفُسِنَا، لَكُنَّا نَظُنُّ أَنَّ مَا يُرْوَى مِنْ أَخْبَارِ كِبَارِ الصَّالِحِينَ الْمُتَوَكِّلِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، وَالْخَوَاصِّ وَالْبَلْخِيِّ مُبَالَغَاتٌ وَإِغْرَاقَاتٌ مِنْ مُتَرْجِمِيهِمْ.وَقَدْ حَدَّثَنَا الْعَلَّامَةُ الْفَقِيهُ الصُّوفِيُّ الْأَدِيبُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ كَانَ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ التَّوَكُّلِ، وَحَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِأَنَّهُ صَارَ مُقَدَّمًا لَهُ، فَامْتَحَنَّاهُ بِسَفَرٍ خَرَجَ فِيهِ مِنْ بَلَدِهِ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ مَالٌ، فَسَخَّرَ اللهُ لَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الشَّرِيفَةِ مَا كَانَ بِهِ سَفَرُهُ لَائِقًا بِكَرَامَتِهِ، وَحُسْنِ مَظْهَرِهِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ سَخَّرَ لَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مِنْ أَغْنِيَاءِ الْمُسَافِرِينَ بِالْبَاخِرَةِ فَتَبَرَّعَ لَهُ بِأُجْرَةِ السَّفَرِ فِيهَا إِلَى حَيْثُ أَرَادَ. وَمِثْلُ هَذَا التَّسْخِيرِ يَقَعُ كَثِيرًا لِرِجَالِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ فِي أَقْوَامِهِمْ وَأَقْطَارِهِمْ، وَنَاهِيكَ مَا كَانَ يَمْتَازُ بِهِ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ جَمَالِ الصُّورَةِ، وَمَهَابَةِ الطَّلْعَةِ، وَحُسْنِ الزِّيِّ وَالْوَقَارِ يُزَيِّنُهُ اللُّطْفُ وَالتَّوَاضُعُ، وَلَكِنْ هَلْ يَقْدَمُ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي كَرَامَتِهِ وَإِبَائِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَلَدِهِ، وَرُكُوبِ الْبَحْرِ وَهُوَ لَا يَحْمِلُ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا لَوْلَا شِدَّةُ الثِّقَةِ بِاللهِ، وَاطْمِئْنَانُ الْقَلْبِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؟ كَلَّا إِنَّمَا يَقْدَمُ عَلَى مِثْلِ هَذَا مِمَّنْ لَا يَعْقِلُ مَعْنَى التَّوَكُّلِ أُنَاسٌ مِنَ الشُّطَّارِ اتَّخَذُوا الِاحْتِيَالَ عَلَى اسْتِجْدَاءِ الْأَغْنِيَاءِ وَالْأُمَرَاءِ بِمَظَاهِرِهِمُ الْخَادِعَةِ وَتَلْبِيسَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ، صِنَاعَةً يُرَوِّجُونَهَا بِالْغُلُوِّ فِي إِطْرَائِهِمْ.وَمَثَلُ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِالْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ فِي تَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ الشَّرِيفَةِ لَهُمْ مَا وَقَعَ لِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَيَّامَ كَانَ مَنْفِيًّا فِي بَيْرُوتَ: قَالَ لِي: جَاءَنِي فُلَانٌ مِنْ أَصْدِقَائِي الْمِصْرِيِّينَ الْمَنْفِيِّينَ يَوْمًا وَقَالَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ وَالِدُهُ، وَأَنَّهُ لابد لَهُ مِنَ الْعِنَايَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ فِي تَجْهِيزِهِ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ مَا يَكْفِي لِذَلِكَ: قَالَ الشَّيْخُ: وَكُنْتُ قَبَضْتُ رَاتِبِي الشَّهْرِيَّ مِنَ الْمَدْرَسَةِ السُّلْطَانِيَّةِ لَمْ أُعْطِ مِنْهُ شَيْئًا لِلتُّجَّارِ الَّذِينَ نَأْخُذُ مِنْهُمْ مُؤْنَةَ الدَّارِ فَنَقَدْتُهُ إِيَّاهُ كُلَّهُ لِعِلْمِي بِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ كُلِّهِ، وَوَكَّلْتُ أَمْرِي وَأَمْرَ أُسْرَتِي إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَمُرَّ ذَلِكَ النَّهَارُ إِلَّا وَقَدْ جَاءَنِي حَوَالَةٌ بَرْقِيَّةٌ بِمَبْلَغٍ أَكْبَرَ مِنْ رَاتِبِ الْمَدْرَسَةِ كَانَ دَيْنًا لِي قَدِيمًا عَلَى رَجُلٍ أَعْيَانِي أَمْرُ تَقَاضِيهِ مِنْهُ، وَأَنَا فِيهَا مُمَتَّعٌ بِمَا تَعْلَمُ مِنَ النُّفُوذِ، وَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بَعْدَ سَفَرِي مِرَارًا أَتَقَاضَاهُ مِنْهُ مُسْتَشْفِعًا بِعُذْرِ الْحَاجَةِ حَتَّى يَئِسْتُ مِنْهُ، فَهَلْ كَانَ إِرْسَالُهُ إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِتَحْوِيلٍ بَرْقِيٍّ إِلَّا تَسْخِيرًا مِنْهُ تَعَالَى بِعِنَايَتِهِ الْخَاصَّةِ؟(أَقُولُ): إِنَّنِي أَرَانِي غَيْرَ خَارِجٍ بِهَذِهِ الْأَمْثَالِ عَنْ مَنْهَجِ هَذَا التَّفْسِيرِ الْمُرَادُ بِهِ التَّفَقُّهُ وَالِاعْتِبَارُ، وَأَنَا أَرَى النَّاسَ يَزْدَادُ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الدِّينِ وَالِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَتَقِلُّ فِيهِمُ الْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ. اهـ.
|